ظهور دولة الشُّراحيين:
ظهرت دولة الشراحيين الوصابيين خلال القرن الثالث الهجري، وكان حاكمها في تلك المدة هو ثالث ثلاثة يسيطرون على اليمن كما قال الهمداني(ت٣٣٤هـ): (... ملوك اليمن الثلاثة، وهم: يُعفِر بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق الجعفري، والشُّراحي).
مدّة الحُكم: قال الهمداني: (الشُّراحيّون منهم: آل يوسف ملوك تهامة -من عهد المعتصم إلى أيام المعتمد- الوصابيّون)... ثم يضيف: (وبزبيد الشُّراحيّون وهم الرأس من الجميع)، أي أن حكمها قد استمر لستة عقود، من سنة (٢١٨هـ) إلى سنة (٢٧٩هـ).
الأسرة الحاكمة: آل يوسف الشُّراحيون: نسبة إلى شُراحة بن شُرَحبيل بن يَرِيم بن سُفيان ذي حُرَث ابن شُرَحبيل بن الحارث بن زيد بن يريم ذي رُعَين... ومن شُراحة الشُّراحيون الذين هم في وصاب، منهم آل يُوسفَ مُلوكُ زبيد وجُبْلان. وشُراحة أو شُراح لغتان، قال الهمداني: وبعضُهم يقول: شُراح، بغير هاء. وهو اختيار نشوان الحميري(ت٥٧٣هـ)، إذ قال: وأما آل شراح فهم الشراحيون ملوك زبيد وجُبْلان.
مساحة النفوذ ومراكز السيطرة: لقد بسطت هذه الدولة نفوذها على تهامة بشكل عام، وبطبيعة الحال فقد سيطرت على الجهات الوصابية وعتمة وريمة، ومن أهم حواضرها ومدنها: العَرْكَبَة، وزَبيد، والكَدْراء، والمَعْقِر، والمَهْجَم، وبلْحَة.
اعلم أن أول من ملك وصاب واستولى عليها بنو وصاب بن سهل الحميريون، وما يزالون يتداولون ملكها حتى زال ملكها عنهم إلى بني عمهم من ذي رعين يريم بن سهل.
وكانوا أشهر من بني وصاب ذكرًا وأعلى منهم قدرًا " ويقول الكلاعي (ت بعد : ٤٠٤ هـ) في قصيدة (المفحمة): «اعلم أن ملوك وصاب المتقدمين هم بنو سلمة الشُّرَاحِيّون، ملوك (عَرْكبة) من آل ذي محرث، ثم (حكم بعدهم) أولاد ذي رعين بن سهل بن الجمهور، وهم بنو عم الوصابيين، وبنو سلمة من الملوك القدامي من حمير، وهم أحد البنين السبعة من حمير ، الذين يقتل بعضهم بعضًا على الملك؛ اعلم أنَّ الشَّراحِيين كانوا الرأس من الجميع وهم ملوك وصاب وتهامة قبل الإسلام.
ومنهم (عبد الله بن يوسف الشراحي) ، ملك مدينة : ( زَبيد) وسورها، و (المعقر)، و(الكدرا)، و (المهجم)، و (بلجة)، ومدينة (الفرضة ) بوادي العقبة، وجعل في كل مدينة جامعا وقاضيا، ولم يعط المأمون شيئًا إِلَّا الدعوة والسكة، واجتمع له ملك تهامة ومخاليف وصاب، ثُمَّ صار لا بنه وابن ابنه، ثُمَّ خرجت تهامة من أيديهم إلى بني زياد، ويستطرد فيقول: فمهما لم يكن في وصاب ملك من بني سلمة الشر حين لم يستقم له طاعة الوصابين، وكان له معهم كل يوم ملحمة، ومثلهم في المنعة والتغلب قبائل الكلاع، لا يعطون الطَّاعَة إِلَّا لسلطان من بني وائل بن يزيد الكلاعي".
وكانت عاصمة الشراحيين تُسمى العركبة، يصفها الحبيبي بقوله: «عَرْكبة مدينة كبيرة عظيمة، يحكم ملكها على جميع وصاب وغيرها، وكان سورها على رؤوس الجبال حولها والعسكر فيهم ليلا ونهارًا، وكان لها أربعة أبواب إلى كل جهة باب؛ وبابها الغربي بين جبلين مستقيمين كالميلين، يدخل منه من أتى من جهة التهائم، ودون هذا الباب الغربي نهر جاري دائم يسقي أرضًا حَسَنةً تسمى ( سُخْمُل) مسيرة يوم، ثُمَّ جروا إليها أنهارًا من جهة المشرق وأدخلوه إلى قصورهم وبيوتهم ومساجدهم، وكان قصر - الملك في ربوة مرتفعة يسمى: المدورة، وجعل بيوت وزرائه وأمرائه مما يليه»؛ إلى أن يقول: وهي مدينة قديمة عمارتها جاهلية وأتى الإسلام وهم على دين عيسى عليه السلام ثُمَّ أسلموا طوعا ومن ظاهر كلامه أنَّ ملوكها الشَّراحِيون آمنوا برسالة الإسلام طوعًا فكان من عادةِ الرَّسُولِ ، والخلفاء الراشدين من بعده إبقاء من آمن طوعا على ما تحت يده.
ينسب الشراحيون إلى شُراحة بن شُرحبيل ذي رعين الحميري، وهم من الأسر الضاربة جذورها في حمير. ومنذ ما قبل الإسلام، وُصفوا بأنهم "رأس جشم العظمى" وملوك وصاب وتهامة، ومع مجيء الإسلام، أسلموا طوعًا وظلت سلطتهم قائمة باعتراف الخلفاء الراشدين، وهو ما يظهر في رسالة للخليفة عمر بن الخطاب إلى ملك العركبة يطالبه فيها بالعدل مع رعيته، قال فيها: "كثر شاكوك، وقل شاكروك؛ فإما اعتدلت أو اعتزلت"، وهي إشارة تكشف عن استمرار مكانتهم كملوك محليين، وأقرهم الخلفاء الراشدون حكاماً على مناطق نفوذهم.
وظل ملك الشراحين في ضعف وانحسار حتى كانت دولتهم الأخيرة، "دولة آل يوسف الشراحيين"، التي امتد سلطانها على وصاب وتهامة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لتشكّل تجربة حكم محلي اتسمت بالاستقلال والرسوخ، رغم سيطرة العباسيين في تلك الفترة على صنعاء التي كان يحكمها الوالي العباسي باسم الخليفة العباسي، قبل أن يطويها النسيان ويثير الباحثون حولها جدلاً تاريخيًا واسعًا، وتم أضعافها من دولة أبناء عمومتهم الزياديين، ثم إنهاء ملكهم على يد الصليحيين.
ومع عهد الخلافة العباسية في القرن الثالث الهجري، برزت دولة الشراحيين بقوة، فأصبح أميرها عبد الله بن يوسف الشراحي لاعباً رئيسياً في مشهد اليمن السياسي، حتى عدّه الهمداني واحدًا من "ملوك اليمن الثلاثة" إلى جانب يُعفر بن عبد الرحمن وأبي إسحاق الجعفري.
امتد حكم الشراحيين بين عامي 218هـ و279هـ تقريبًا، أي نحو ستة عقود. خلال هذه الفترة، سيطروا على معظم تهامة وأجزاء واسعة من وصاب وريمة وعتمة، وأمسكوا بزمام التجارة والزراعة. وبهذا شكّلوا دولة محلية قوية، جمعت بين الأصالة القبلية والشرعية الدينية، وعرفت بنفوذها الذي ضاهى نفوذ اليعافرة أو غيرهم من القوى اليمنية المعاصرة.
لم يكن الملك سهلاً؛ وخصوصاً أن اليمن أصبحت قوىً مفككة مشتتة ضعيفة، يأكلها التباغض والتحاسد والتناحر، فقد خاضوا صراعات قاسية مع قبائل وصاب المتوثبة وغيرها من القوى المحلية مثل قبائل الكلاع. ومع ذلك، حافظوا على استقلالهم النسبي رغم ظل الخلافة العباسية. فالدعاء للخليفة على المنابر وضرب السكة باسمه كانت مجرد التزامات رمزية، بينما الواقع أن السلطة الفعلية كانت بيد الأمراء الشراحيين.
كانت العركبة عاصمة ملكهم، مدينة فريدة فوق الجبال، اختارها الشراحيون عاصمة لهم، وحصناً حصيناً لملكهم، ويصف المؤرخون هذه الحاضرة بأنها مدينة حصينة فريدة، مبنية على رؤوس الجبال، مسوّرة بأبواب أربعة، تجري إليها المياه من الأنهار والعيون. وفي أعلاها ارتفع قصر "المدورة" حيث يقيم الملك، وحوله بيوت الوزراء والأمراء. كانت العركبة رمزًا للهيبة والسلطان، ومركزًا للسيطرة على وصاب وتهامة، إلى جانب مدن أخرى: زبيد، الكدراء، المعقر، المهجم، وبلْحة، وفي هذه المدن، أسس عبد الله بن يوسف الشراحي جامعًا لكل مدينة، ونصّب قضاة لإدارتها، لكنه لم يدفع للخليفة المأمون سوى الدعاء له في الخطبة وضرب السكة باسمه، بما يرمز لارتباط شكلي دون تبعية فعلية.
إذا كان الجدل حول قيام وانتهاء دولة الشراحيين سياسياً قائماً، فإن سقوط عاصمتهم "العركبة" يمثل محطة مادية جسّدت أفول هيبتهم. العركبة لم تكن مجرد مدينة، بل حاضرة متفردة مشيدة فوق الجبال، محصنة بأسوار وأبواب، تجري إليها الأنهار وتزدان بقصر الملك "المدورة". لكنها فجأة واجهت كارثة طبيعية داهمة: سيول عاتية انهمرت من أعالي وصاب، جرفت القصور والدور، واقتلعت أساسات المدينة في إحدى الليالي المظلمة.
المصادر تتحدث عن طوفان بلغ ارتفاعه عشرات الأذرع، اندفع نحو أبواب المدينة فاجتاحها من داخلها، فلم يترك خلفه إلا الخراب والفتنة. ومنذ تلك الكارثة بدأ الضعف يدب في بيت الشراحيين، إذ اندلعت بينهم الحروب الداخلية وانهار تماسكهم السياسي، ففقدوا نفوذهم تدريجياً، لينحصروا في مواقع متفرقة قبل أن تزول دولتهم مع صعود الصليحيين والمهديين بعد عدة عقود.
تاريخ سقوط العركبة يفتح أيضاً جدلاً حول دور الطبيعة والسياسة في مصير الدول. فهل انهيار العركبة كان سببًا مباشرًا لنهاية الشراحيين، أم أنه مجرد عامل عجّل بانهيارهم بعد أن نخرتهم الصراعات؟ تتباين الإجابات؛ إذ يرى بعض المؤرخين أن الصراع بين أبناء البيت الشراحي سبق الكارثة، فجاءت السيول لتكشف الهشاشة القائمة وتدفعها إلى نهايتها المنطقية، بينما يذهب آخرون إلى أن الكارثة نفسها غيّرت موازين القوى وأفسحت الطريق أمام بني زياد ثم القوى التالية لتملأ الفراغ.
وفي كلا الحالتين؛ يبقى الظلم، والتباغض والتحاسد، وتقطيع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، كبائر تعجل بعقوبة الدنيا قبل الآخرة، فأصبحت دولة الشراحيين لقمة سائغة للآخرين، وحملت داخل بنيتها بذور سقوطها، فالمصادر التاريخية تذكر أن وصاب وتهامة لم تكونا أرضًا يسهل إخضاعها، وأن الشراحيين، رغم رسوخ ملكهم، ظلّوا يواجهون صعوبة في ضمان ولاء القبائل الوصابية المتمنعة دائمًا على كل سلطان، وكان على ملوك وصاب ــــ من آل يوسف الشراحيين ــــ يخوضوا "ملحمة كل يوم" مع هذه القبائل، كما وصفهم الكلاعي، ومع تراكم تلك التوترات، تفاقمت الخلافات بين الإخوة والأبناء داخل البيت الحاكم نفسه، فانفرط العقد، وفقدت الدولة تماسكها وسلطتها المركزية.
وانقسم أمراء وصاب إلى معسكرات متنازعة، كل منهم يريد نصيبًا أكبر من السلطة والنفوذ، هذا النزاع الداخلي استنزف قوّتهم ومنعهم من مجابهة الأخطار الخارجية. ويصف بعض المؤرخين كيف أن هؤلاء الملوك، بدل أن يوحّدوا صفوفهم، انشغلوا بالتحصن في الجبال، كلٌّ منهم يقيم لنفسه حصنًا أو مدينة صغيرة ينازع بها أبناء عمومته الذين فضلوا البقاء في العركبة، وبهذا صار بيت الملك الواحد ساحة حرب أهلية متقطعة مزّقت أوصال الدولة.
وسط هذا الضعف، جاءت الكارثة التي عدّها رواتها عقوبة من الله على ظلمهم وتفرقهم. ففي ليلة مظلمة هطلت أمطار غزيرة على رؤوس الجبال المحيطة بالعركبة، دون أن تسقط على المدينة نفسها. فجأة تدفقت السيول من أعالي وصاب تجاه أبواب العركبة لتجتاحها بقوة غير معتادة، حتى قدّر المؤرخون ارتفاع الماء بما يزيد على مئتي ذراع، وهو ما يكفي لاقتلاع القصور والدور من جذورها.
انهارت المباني العظيمة التي طالما تباهى بها الشراحيون، وغرق أهل المدينة في الطوفان. لم تقتصر الكارثة على الدمار المادي، بل زرعت الرعب في نفوس الناس، واعتبرها الجميع إشارة سماوية على سخط الله، جزاء لما ارتكبوه من ظلم وتناحر، وليتهم تعلموا من قول الله تعالى في أجدادهم في سورة سبأ: "وهل نجازي إلا الكفور"، أي وهل نجازي بعقاب السيل الذي أصاب اليمنيين في سد مأرب إلا الجَحود المبالغ في الكفر، وليتهم استجابوا لوصية عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لحاكم الشراحيين حين قال: "كثر شاكوك وقل شاكروك؛ فإما اعتدلت وإما اعتزلت".
بدل أن تكون الكارثة فرصة لوحدة الصف وإعادة بناء ما تهدّم، تحولت إلى شرارة لمزيد من الاقتتال الداخلي. فمع نزوح بعض الناجين إلى الضواحي والجبال، استحوذ كل أمير شراحي على حصن أو موضع جديد، وبنى لنفسه سلطانا منفردًا. يروى أن أحدهم صعد إلى جبل غيثان وبنى هناك حصنًا محصنًا بخزانات مياه، وأقام فيه مملكة مصغرة ينازع بها أقاربه الذين بقوا في خرائب العركبة، وليتهم تعلموا من قول الله تعالى في أجدادهم في سورة سبأ: "قالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق".
انشغلت الأسرة الحاكمة بصراعها عن إصلاح المدينة المنكوبة أو إعادة لحمتها السياسية، فسلط الله بعضهم على بعض حتى قضوا على دولتهم بأيديهم، فصار كل أمير يستنزف أخاه، ومعاركهم الصغيرة فتّتت بقايا قوتهم حتى غدوا لقمة سائغة للأطراف الأخرى: بني زياد، حتى جمعهم الصليحييون في صنعاء تحت الإقامة الجبرية.
"سقوط الدولة بأيدي أهلها"، مأساة الشراحيين تكمن في أنهم لم يهزموا بفعل قوة غازية وحسب، بل بسبب ظلمهم وانهيار منظومتهم الداخلية، وصراع أناني جرّ عليهم غضب الله وعقوبة الدنيا والآخرة، فبينما كانت الطبيعة تجرف عاصمتهم بالسيول، كانت شهوة السلطة تجرف وحدتهم السياسية من الداخل، وبهذا تحقق سقوط مزدوج: كارثة طبيعية سلبت منهم العاصمة، وحروب أهلية بددت ما بقي من رجالهم وسلطانهم.
لقد سقطت العركبة إذن مرتين: مرة بالماء، ومرة بالدماء، وكلها بأيدي أبنائها، وكانت النتيجة موت دولة كاملة على أيدي أبنائها أنفسهم، فحين افترقت كلمتهم وتسلط بعضهم على بعض، انهار ملكهم من الداخل، ولم يبق لهم في ذاكرة التاريخ إلا ذكرى دولةٍ عظيمة زالت بفعل السيل والنزاع، عقوبةً إلهية وعبرةً باقية للأجيال، وأصبحوا لقمة سائغة للآخرين.
وظلت الدول تقضم نفوذهم على أرضهم حتى جاء الصليحي حاكم الدولة الصليحية عام 455هـ، واستقر ملكه في صنعاء وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم وأسكنهم معه بصنعاء، واختط بصنعاء عدة قصور، ومن ضمن من حملهم معه إلى صنعاء الشراحيين ملوك وصاب، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، ويظن بعض الباحثين أن خراب العركبة وانتهاء أمرها بعد خروج الشراحيين منها كان ما بين عام 500هـ و 550هـ، والله أعلم.
شتات الشراحيين:
وفي مبحث قادم بإذن الله تعالى، سنستعرض ما جاء في الكتب عن شتات الشراحين، وأين ذكرت المراجع الأماكن التي ارتحلوا إليها، مثل قرية ضمد بمنطقة جازان المذكورة في القصيدة الخمرطاشية، ومنطقة الحد بيافع في وادي قطنان، ومنها الأحاديث عن بعض أسر الشراحين التي وصلت لحضروموت، ومنها قرية صداء وما دار حول هذه القرية عن اجتماع مجموعة من القبائل التي اجتمعت بها ثم انقسمت ما بين اليمن وجرش (عسير)، ، وهو ما قد يكون مفسراً لسردية المخفوسة التي سمعناها من بعض الرواة من أسرتنا.