قضية الأنساب ... لماذا؟!
قضية الأنساب والحديث عنها قد يستفز بعض الخلق، لأنه يظن أن حفظها ومراعاتها إنما هو للفخر بها أو لمجرد التعالي بها على الخلق، وليس ذلك غاية الشريعة عندما أمرت بحفظها، فقضية الانتماء إلى نسب معين إنما هي لغاية التعارف بين الناس أليس ربنا يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وقال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر) وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم انه غير ابيه فالجنة عليه حرام"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر)، وعن يزيد بن شريك بن طارق قال: رأيت عليًا رضي الله عنه على المنبر يقول: (من ادعى الى غير ابيه او انتمى الى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا.
فحفظ الانساب ضرورة انسانية لا يقول احد انها غير مهمة، وانها تنقطع بمضي الزمن، الا ان كان لا يعرف شرع الله ومقاصده، ولذا حرم الشرع الطعن في الانساب، ويدل له قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)، وفي صحيح مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم (كفر من تبرأ من نسبه وإن دق أو ادعى نسبًا لا يعرف).
ولذلك اهتم المسلمون عبر عصورهم بالانساب وحفظوها، وكان بينهم من هو عالم بها يرجع اليه فيها، فقد كان سدينا ابو بكر الصديق خليفة سيدنا رسول الله في علم النسب بالمقام الارفع والجانب الاعلى، ولعل هذا دليل على عظم وشرف هذا العلم وجلالة قدره.
وقد اهتم المحدثون بترجمة الرواة ومعرفة انسابهم، وعلم تاريخ الرجال شاهد على ذلك وعلى علم الانساب تترتب الكثير من الاحكام الشرعية، فعلى معرفة النسب يعتمد علم المواريث، وحفظ النسل وعدم اختلاطه ايضًا يعتمد على ذلك.
حفظ النسب أساس تشكيل الهوية
والهوية معناها: تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة ... أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره ... هذه الهوية هي التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها، والانتماء لها، والانتصار لها، والموالاة والمعاداة على أساسها، فبها تتحدد شخصية المنتمي وسلوكه، وعلى أساسها يفاضل بين البدائل.
وبالنسبة للمجتمع تعتبر الحصن الذي يتحصن به أبناؤه، والنسيج الضام، والمادة اللاصقة بين لبناته، فإذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته المتناقضات، فالنسب هو رابطة سامية وصلة عظيمة على جانب كبير من الخطورة، لذا لم يدعها الشارع الكريم نهبا للعواطف والأهواء تهبها لمن تشاء وتمنعها ممن تشاء، بل تولاها بتشريعه، وأعطاها المزيد من عنايته، وأحاطها بسياج منيع يحميها من الفساد والاضطراب، فأرسى قواعدها على أسس سليمة.
إن علم الأنساب من أجّل العلوم قدراً وأرفعها ذكراً: فعلم الأنساب، كما ورد في كتاب "أبجد العلوم"، هو علم يتعامل مع أنساب الناس وقواعده العامة والخاصة. يهدف هذا العلم إلى تجنب الوقوع في الخطأ عند تحديد نسب شخص ما، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".
إن في معرفة النسب مندفع إلى مكارم الأخلاق، كما أن فيها ترفعاً عن الملكات الرذيلة، فمتى عرف الإنسان في أصله شرفاً، وفي عوده صلابة، وفي منبته طيباً.. فإنه عادة يأنف عن تعاطي دنايا الأمور وارتكاب الرذائل حيطة على سمعته من التشويه وحذراً على ذكره من ارتكاب العار، وتنزيهاً لسلفه من سوء الأحدوثة.
وقال الفاروق عمر - رضي الله عنه : تعلموا من النجوم ما تهتدون به، ومن الانساب ما تعارفون به وتواصلون عليه، ومن الاشعار ما تكون حكما وتدلكم علي مكارم الاخلاق.
كما حث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه على تعلمه فقال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر) رواه احمد - صحيح الترمذي للألباني.
وعلم الأنساب عند العرب منذ القدم، لم يكن وسيلة للتمييز العنصري، أو التمايز الطبقي الاجتماعي والديني، وإنما كان وسيلة للرقي والتهذيب الاجتماعي والأخلاقي بأرقى صوره، وما الكرم والشجاعة والمروءة والنبل والحكمة... وغير ذلك من الصفات الجليلة إلا وسيلة من وسائل النَسَب التي تفاخر بها الأجداد.
مقصد الشريعة العام في حفظ النسل (النسب)
مقاصدية حفظ النسب:
إنّ حفظَ النسب مقصدٌ تكويني وتشريعي في آن واحد؛ فهو مقصد تكويني لأن حاجةَ الإنسانِ إلى الانتساب إلى أصلٍ معلومٍ فطريّةٌ بالأساس، وجُبلَ عليها البشرُ منذ الأزل كيفما كانت ديانتهم وقوميتهم؛ وفي هذا المعنى يقول شاه وليّ الله الدّهلوي: «اعلم أن النسب أحد الأمور التي جبل على محافظتها البشر، فلن ترى إنسانا في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يُحِبُّ أن ينسب إلى أبيه وجده، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما، اللهم إلا لعارض من دناءة النسب أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع ونحو ذلك، ويجب أيضا أن يكون له أولاد ينسبون إليه ويقومون بعده مقامه، فربما اجتهدوا أشد الاجتهاد، وبذلوا طاقاتهم في طلب الولد، فما اتفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنى في جبلتهم، ومبنى شرائع الله على إبقاء هذه المقاصد التي تجري بجري الجبلة، وتجري فيها المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذي حق حقه منها والنهي عن التظالم فيها، فلذلك وجب أن يبحث الشارع عن النسب»، والحاجة إلى الانتساب لا تقتصر على الطفل، وإنما تتعداه للأب، فهي حاجة فطرية متبادلة بين الولد ووالده.
كما أن حفظ النسب مقصد تشريعي؛ فقد سُنَّت مجموعة من التشريعات لمنع أن يدخل فيه ما ليس منه، أو يخرج منه ما هو فيه، إذ تترتب على النسب أحكام شرعية يبلغ بعضها درجة الكبائر نحو «عقوق الوالدين»، بالإضافة إلى عدد من الأحكام الأخرى المختصة بالزواج والنفقة والميراث وسقوط القصاص والولاية والحضانة والرعاية وغيره.
وقد عمل أهل الأصول والمقاصد على بيان مقاصدية حفظ النسب، واختلفوا في رتبته ودرجته ضمن سلم المقاصد بين رأي يقول إنه يندرج في «المقاصد الضرورية»، وآخر يراه ضمن «المقاصد الحاجية»، ويلخص ابن عاشور الخلاف قائلا: «وأما حفظ الأنساب، ويعبَّر عنه بحفظ النسل، فقد أطلقه العلماء، ولم يبينوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه، وذلك إن أريد به حفظ الأنساب: أي النسل من التعطيل، فظاهر عدّه من الضروري؛ لأن النسل هو خِلقة أفراد النوع، فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾[العنكبوت:29]. على أحد التفسيرين، فبهذا المعنى، لا شبهة في عده من الكليات؛ لأنه يعادل حفظ النفوس...أما إن أريد بحفظ النسب: حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قاعدة الأنكحة، وحرم الزنا، وفرض له الحد، فقد يقال: إن عدّه من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيداً هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم[...].
فيكون حفظ النسب بهذا المعنى، بالنظر إلى مجموع جوانبه، من قبيل الحاجي، ولكنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب، عواقب كثيرة سيئة، يضطرب لها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري؛ لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنا، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر، والنكاح بدون ولي وبدون إشهاد، وفي مقالة ابن عاشور حول «النسب» ذكر أن حفظ النسب «عند التحقيق من قبيل الحاجي ولكنه شبيه بالضروري، وإلى ذلك الأصل ترجع الأحكام الشرعية الحائلة حول حياطته من الانخرام والشك في واقعيته، مثل تشريع الزواجر على الاعتداء عليه كحد الزنى وتعزير الاغتصاب، وشرع عدة الوفاة، وإيجاب الإشهاد على النكاح عند العقد أو قبل البناء (على الخلاف). وقد تقرر من قواعد الفقه أن الشارع متشوف للحاق النسب.
وعليه؛ فإن الانتساب مقصد شرعي، فهو ضرورة من ضرورات حفظ النسل، بل هو «ضرورة من ضرورات حفظ المجتمع؛ إذ بالإضافة إلى ما لجهالة النسب واختلاطه من أثر في انحلال الرابطة الأسرية بانحلال عواطف الأبوة والبنوة، فإن علم النفس أصبح يثبت على وجه اليقين ما لجهالة النسب من تأثير نفسي مدمر على شخصية المجهول نسبه».
لذلك كان من معاني حفظ النسل حفظ النسب، وذلك بأن تكون نسبة الابن معلومة لأبيه بالضوابط الشرعية، التي لا تكون إلا عن طريق الزواج، وكل تلفيق للنسب خارج الأسرة فإنه يكون مدعاة للتنقيص، فباستقراء مقصد الشريعة في النسب يتبين لنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريق النكاح، ومن شأن هذا أن يعزز الكرامة الإنسانية بحيث يرجع كل فرع إلى أصله الحقيقي، وهذا مدعاة لئلا تختلط الأنساب وتشتبك الأعراض، فحفظ النسب «الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل إلى الرأفة والحنو على نسله –سوقا جبليا وليس أمرا وهميا، فحرص الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه ورفع الشك عنه نظر إلى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي علاوة على ما فيه ظاهره من إقرار نظام العائلة ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل إليها والعكس».
تحقيق مصالح هذا النسل:
إذ أنَّ مقصد حفظ النسل يُناط به عمارة الأرض، وبناء الحضارة، وقيام النهضة، ومن ثَمَّ فيجب رعاية هذا النسل والحفاظ عليه، وتعهُّده بما يُحقِّق مصلحته من توفير مطالبه الأساسية من المأكل والملبس والمشرب وتوفير الرعاية الصحية اللازمة له، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)[17]. وكذلك تعليمه وتأديبه ليكون عضواً نافعاً لأمَّته، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا).
حفظ الانتماء البيولوجي أو حفظ الانتساب:
«إن النسب آصرة متينة من أواصر البشر، ألهمهم الله تعالى العناية بها والدفاع عنها وتعزيزها، لحكمة إلهية تعلقت بها إرادته لبقاء النوع الإنساني»، ويعتبر النسب من حقوق الأبناء، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[الفرقان:54]، وقال سبحانه: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب:5]، وقال ﷺ: «الولد للفراش»؛ أي الزواج.
وقد تفشّت بعض الظواهر في المجتمعات الحداثية نحو «الطفل الطبيعي» و«المراهقة الحامل» و«الأم العازبة»، وسبب ذلك ترسيخ الفصل بين الزواج والعلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، وفشوّ العلاقات الحرة، وعدم تجريم هذه الأخيرة بعيدا عن مؤسسة الزوجية المدنية أو الشرعية، ومن الطبيعي أن يظهر عندنا طفل لا يعلم له نسب بيولوجي، ومن ثمّ، صار هذا الطفل في مفترق الطرق نحو التيه والضياع، وكما يقول أوليفي تيوكوكريف: «لا يمكن بأي حال من الأحوال خلق عالم جدير بالأطفال خارج إطار الأسرة»، فإذا كان هذا شأن الطفل في بيئة لا تولي اعتباراً كبيرا للنسب، فكيف سيكون شأنه في عالم يعتبر فيه النسب مكونا من مكوناته الدينية والثقافية والاجتماعية؟ !
مقصد التزكية القرآني في حفظ النسب
مقصد التزكية الشرعي (الحفظ الأخلاقي):
إن التزكية المقصودة في هذا المقام ذات دلالة شاملة؛ تشمل التربية الصالحة والإعداد النافع للنشء بالتركيز على ترسيخ الإيمان وتنمية المهارات العقلية وغرس المعاني الرسالية، فتجتمع معاني العلم والمعرفة يزكيهما الإيمان ويوجههما، والتزكية مصطلح قرآني أصيل وهو أخص من مفهوم التربية من وجه؛ إذ إنها خاصة في التربية على مقتضى أحكام الدين وأخلاقه، وهذا ما قرره طه عبد الرحمن حيث قرر أن هذا المفهوم أدل على المقصود ب«التربية على مقتضى تعاليم الدين» من مصطلح «التربية» الذي شاع وذاع مع أنه في السياق القرآني أقرب إلى إفادة معنى «رعاية» الفرد في صباه منها إلى إفادة معنى «تنمية» كامل قواه».
ويرى الكاتب أن تحديد طه عبد الرحمن هنا تمّ بالنظر إلى الاستعمال الحالي، أما بالنظر إلى الاستعمال القرآني، سنجد أن التزكية جزء من التربية، وإن كان بينهما عموم وخصوص، فقد جاء في الآية ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾[الإسراء:24]، فأنيط دعاء الأبناء لآبائهم على الكبر بتربية الآباء لهم في الصغر، فالتربية هنا لا يقصد بها مجرد الأكل والشرب وغيره لأن هذه أمور تشترك فيها المخلوقات، وإنما تكمن خصوصية التربية الإسلامية في التركيز على الأبعاد الأخلاقية، خصوصا التزكوية، لذلك كانت التزكية جوهر التربية الإسلامية.
فالتزكية من مقاصد بعثة الأنبياء؛ وقد جاء في دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 129]،لذلك كان من أهم أهداف الإسلام تحقيق وإيجاد 'إنسان التزكية' القادر على تحقيق التوحيد، وإقامة العمران، والتزكية لا تتحقق دون التوحيد، ولا تظهر دون فعل عمراني ينبه إلى الأبعاد الفكرية والعقدية والنفسية والعقلية للإنسان الذي قام به.
وقد جاء في الخطاب القرآني وصف الابن بالزكي، حيث جاء على لسان جبريل مخاطبا مريم، ڽ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾[مريم: 19]،فوصفُ الابن بالزكي له دلالته وخصوصيته؛ فكانت أنجع أضرب التزكية تلكم التي تكون منذ الصغر حتى يرتقي الإنسان في مدارج الإيمان بخلفية توحيدية ورؤية عمرانية تنمو مع مرور الأيام، فتخرج التزكية من الجانب النفسي الوجداني إلى الجانب الفعلي العملي، متعدية الفرد إلى المجتمع، فتكون التزكية بذلك فعلا إنمائيا وعملا بنائيا؛ يبني الإنسان وينمي الحضارات، ولا بناء للإنسان خارج مؤسسة الأسرة باعتبارها المحضن الأساس للتربية الصالحة، التي تكون نجاحا في الدنيا، وفلاحا في الآخرة، فهي سبب للارتقاء في الدرجات العلى، ودخول جنات عدن خالدين فيها أبدا ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾[طه: 75-76].
ونلحظ في أدعية الأنبياء الواردة في القرآن بخصوص الأبناء، أنها لا تقتصر على طلب «الذرية» وحسب، أي ذرية كيفما كانت، بل نجدهم يدعون الله سبحانه بأن يهبهم «ذرية صالحة» و«ذرية طيبة»، دون التشديد على عددها أو تعيين جنسها، وإنما أن تكون صالحة وطيبة وحسب؛ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو ربه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[الصافات:100]. وللصلاح دلالة قرآنية متميزة، تدل على الفعل والعمل؛ فهو ليس مفهوما سكونيا كما ترسخ عند كثيرين بحيث تكون صورة العبد الصالح في الأذهان لذلكم الرجل الزاهد المتفرغ للشعائر الذي لا يؤذي أحدا ولا يحرك ساكنا، وهي صورة تظل في أحسن أحوالها مثالية وأقل فاعلية، فضلا عن مخالفتها للمطلوب القرآني من الإنسان ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[التوبة:105].
لذلك فنحن إذا تأملنا معنى الصلاح في القرآن سنجده مفهوما حركيا، بحيث إن الإنسان الصالح يبتغيى تحسين أوضاع المجتمع وجعل العالم مكانا أفضل للعيش..
وهذا زكريا عليه الصلاة والسلام يدعو ربه:﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[ آل عمران:38]، والطيب في اللغة نقيض الخبيث، ويقال الأرض الطيبة التي تصلح للنبات، ومعاني الإنبات تدل على معنى الإثمار، وقد جاء قريبا من هذا المعنى ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾[آل عمران: 37]،فهذه إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، ولكي ينبث ويثمر يجب الاعتناء به من وقت أن كان بذرة بتعهّده، والاعتناء به في كل مراحل نموه، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، فينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية والعناية، وذلك بتعهده منذ طفولته ومتابعته في كل مراحل رشده إلى أن يصير إنسانا طيبا معمرا.
فحين نتحدث عن ذرية طيبة فإننا نتحدث بالدرجة الأولى عن إنسان فاعل مثمر، إنسان مغير مصلح، يترك أثر إصلاحه وثمرة وجوده على الأرض لتدل عليه، فيكون كالنبات الحسن، أينما حل فهو يفيد..﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾[الرعد: 17]. ومن النماذج القرآنية للذرية الطيبة إسماعيل عليه السلام باعتباره من خيرة الصالحين، رفع قواعد الإيمان مع أبيه إبراهيم عليهما السلام ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 127] فكان صلاح إسماعيل عليه السلام عملاً عمرانياً يبتغي الرفعة، وهي رفعة منطلقة من القاعدة التي تنظر إلى السماء..
وهذه الأوصاف «الصلاح» و«الطيبة» لا تتحقق دون جهد تزكوي تربوي من الآباء نحو الأبناء ابتداء حتى يكونوا زهرة الحياة الدنيا، وتقر بهم الأعين انتهاء، فيتحقق الامتداد الأبوي المنشود، ولا امتداد زمنيا دون صلاح إنساني يتعدى الإنسان نفسه إلى مجتمعه، ويتأكد هذا المعنى بما جاء في الحديث النبوي: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنْتفَع به، أو ولد صالح يدعو له»، فاقتران الولد بالصلاح هنا متمم ومؤكد لما ورد في الكتاب المجيد.
ومنه، فإن الفعل التزكوي هو الذي يرقى بالإنسان، كما يرقى بمؤسسة الأسرة بكل تشعباتها وامتداداتها، فتعود على قيم البنوة والأخوة وغيرها بالصلاح والفلاح، فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ومن ثمّ؛ فإن وجود الإنسان حقّا لا يتحقق فقط بالإنجاب البيولوجي، وإنما التزكية هي أساس حفظ الإنسان كَمَّا وكيفا، فلا يمكن الحديث عن الثاني دون الأول والعكس، لذلك فإن الحديث عن ضرورة «حفظ النوع» و«حفظ النسل» بالتركيز عن الجانب الكمي العددي وإهمال الجانب الكيفي التزكوي ليصير الزواج عملا تكاثريا، والكثرة في حد ذاتها ليست محلا للمباهاة ولا للمفاخرة، بل تصير الكثرة الكمية الخالية من «الإنسان الزكي» غثائية لا يؤبه بها، وضررها أكثر من نفعها، كما جاء في الحديث: «يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها» فقال قائل: «ومن قلة نحن يومئذٍ؟» قال : «بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٍ كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت».فالفعل التزكوي هو الذي يرقى بمؤسسة الأسرة فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
والتركيز على التزكية في الحفظ الأخلاقي للإنسان هو ما يمكن اعتباره بتفعيل «المقصد الإيماني» و«المعيار الإلهي» في الحياة، فهو الذي يوحد القيم ويضبط الأفعال ويوجه السلوك الأسري نحو الغاية الأسمى وهي «العبادة»، مصداقا لقوله تعالى﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56] ، وكل عمل معوج الوجهة، أو بلا قبلة، فلا يندرج ضمن التصرفات التوحيدية.